من حفل تأبين المهندس في غزة
من حفل تأبين المهندس في مدينة نابلس
مع كل عملية تفجير استشهادية تدق نوافذ الوعي الشعبي في الكيان الصهيوني، تظهر صورة يحيى عياش أو المهندس عدة مرات على كامل شاشة التلفزيون الإسرائيلي وعلى كل القنوات وأثناء البث المباشر لعملية إسعاف الجرحى، فيما يردد المذيعون اسم المهندس الذي أصبح الهاجس الأساسي لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. وغدا المهندس شبحاً أسطورياً بالنسبة للإسرائيليين بعد أن تفشت في أوساطهم الإشاعات المتناقضة حول هذا المهندس الخطير، كما أن رئيس الحكومة خرج عن العرف الدبلوماسي والمراسم المتعارف عليها دولياً بإعلانه أن المهندس هو الهدف المركزي للدولة بكافة مؤسساتها وأجهزتها وقبوله شخصياً التحدي حيث أعلن بأن مصير يحيى عياش سيكون مثل مصير (الإرهابيين) وهو الموت(1). ويؤكد الخبير العسكري، زئيف شيف، هذا الأمر في سياق تعليقه على جريمة اغتيال المهندس فيقول: «إن الشيء الذي أملى اتخاذ قرار القضاء على يحيى عياش ليس فقط حساب الدم المتعلق بعشرات القتلى والجرحى من الإسرائيليين، وإنما أولاً وقبل كل شيء حقيقة أن هذا الرجل تمكن في كل مرة من بناء قاعدة جديدة للعمليات الانتحارية الجماعية. ولذلك، تحول المهندس إلى هدف مركزي، وأعطى في حينه اسحق رابين الأمر بعمل كل شيء ممكن من أجل القضاء على يحيى عياش، وتبنى شمعون بيريز الذي خلف رابين في رئاسة الوزراء هذا التوجه».(2)
إن قدرة يحيى عياش على التحرك بحرية نسبية في الضفة الغربية وقطاع غزة والعمل بنجاح في تلك المناطق وفي المنطقة المحتلة منذ عام،1948 دون أن تتمكن المجهودات الضخمة والمكثفة التي بذلها الجيش والشرطة والوحدات الخاصة وأذرع المخابرات من إفشال أي من خططه، وعلى الرغم من الآثار السلبية والبصمات المرعبة التي خلفها نجاح المهندس على المجتمع الإسرائيلي إلا أن القادة والمعلقين الصهاينة غالباً ما وقفوا اعترافاً واحتراماً لهذه العقلية المتميزة والقدرة المتجددة. ويكفي أن يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي اعتبر نفسه ودولته في حالة عداء شخصي مع يحيى عياش هو الذي أطلق عليه لقب (المهندس)، إذ كتبت يديعوت أحرنوت في تحليلها بعد استشهاد عياش ما يؤكد إعجاب رابين بشخصية عدوه فتقول: «كان رئيس الحكومة رابين هو الذي أعطى يحيى عياش لقب المهندس، وقد تذكر جدعون عزرا هذه الواقعة: في إحدى المناقشات التي جرت حول عياش أعجب رابين بمواهبه، وبعد أن قصصنا عليه ما يفعله، ألصق بعياش لقب المهندس، وقد أصبح هذا اللقب اسما مرادفا لعياش منذ ذلك الوقت، وكان عيزرا قد اعتاد إبلاغ رابين بما يجري بشأنه من نشاط جار أولاً بأول حيث كان عيزرا هو الذي يقود عملية المطاردة للقبض على عياش، وكان رابين على علم بأدق تفاصيل المعلومات الاستخبارية والحملات التي يخطط لها للقبض على عياش»(3).
وفي نفس السياق، عبر الجنرال جدعون عيزرا، نائب رئيس الشباك السابق عن إعجابه بيحيى عياش رغم ما يكنه من عداوة وحقد للعمليات التي نفذها. ففي مقابلة مع صحيفة معاريف، قال الجنرال عيزرا: «إن نجاح يحيى عياش بالفرار والبقاء حولته إلى هاجس يسيطر على قادة أجهزة الأمن ويتحداهم. فقد أصبح رجال المخابرات يطاردونه وكأنه تحد شخصي لكل منهم، وقد عقدت اجتماعات لا عدد لها من أجل التخطيط لكيفية تصفيته... لقد كرهته، ولكني قدرت قدرته وكفاءته»(4). ويضيف عيزرا في مقابلة أخري مستعرضاً معاناته أثناء عمليات البحث الفاشلة عن عياش: «كنت كل يوم أحاول إلقاء القبض على يحيى عياش، وأحياناً أكثر من مرة واحدة يومياً. وليس أنا فقط، فقد كنا كثيرين وحاولنا إلقاء القبض عليه وجندنا أفضل الأشخاص لذلك، كنا على استعداد لصرف ميزانيات بلا حدود من أجل تصفيته. ولكنه كان يهرب عادة بوثائق مزورة منتحلاً شخصيات مختلفة، فيربي ذقنه حيناً ويحلقها حيناً آخر، ويغير من ملامح وجهه. ويتجول في إسرائيل وهو يرتدي قبعة يهودية مسروجة ويتحرك بسيارة وضعت عليها ملصقات تحمل شعارات مثل: الشعب مع الجولان»(5).
وتحت عنوان (اعرف عدوك: المهندس هو المطارد الأول)، نشر أليكس فيشمان مقالاً طويلاً في صحيفة معاريف بعد عملية الشهيد صالح صوى تحدث فيه عن القائد يحيى عياش جاء فيه: «أحد أبرز جوانب هذا الطالب الجامعي هو قدرته على إعداد عبوات فعالة من مواد ليست من نوعيات جيدة. هذه القدرة تحظى بالتقدير الكبير من رجال المهنة الإسرائيليين كونه استطاع التغلب على الجفاف الذي خلفته المخابرات العامة في المواد المتفجرة جيدة النوعية... لقد تعرفت المخابرات على هذه القدرة في العام 1992 حيث لم يكن عياش معروفاً عندما ضبطت سيارة ملغومة في رامات أفعال. وبالكاد عرفت أن عياش هو الذي أعد العبوة... لقد ذعر رجال المخابرات من مجرد التفكير في إمكانية وصول هذه السيارة إلى قلب تل أبيب لتنفجر في شارع ديزنغوف». ويضيف فيشمان: «خلف يحيى عياش -المطارد رقم واحد- وضعت أجهزة الأمن الإسرائيلية كل ثقلها: سيرته الذاتية، خططه، طبيعته، أسلوب عمله. ورغم أن كل ذلك أصبح معروفاً لدى رجال المخابرات، إلا أن عياش لعب معهم لعبة القط والفأر. ويزيد اسحق رابين على أجهزة المخابرات هماً وخيبة حين يبادر في بداية كل اجتماع بالسؤال: أين المهندس؟ فلا يتلقى جواباً. وعليه تحول المهندس إلى رمز لفشل إسرائيل في الإمساك بمن ينفذ العمليات وليس المنظمة وحدها. وكأن الأرض انشقت وابتلعته، كان هناك من ادعى أن الرجل فر إلى خارج البلاد، وهناك من ادعى أنه فر إلى منطقة الحكم الذاتي. ولكن في غرفة العمليات، ما تزال صورته معلقة على ملصق كبير، كتب تحتها المطلوب رقم واحد، والملف الخاص بيحيى عياش مليء ولكنه ما زال مفتوحاً. فقد اختار المهندس الهدف، التوقيت، وأسلوب العمل لخطة نسجها على مدى خمس سنوات»(6).
ويتسع نطاق إخوانه المهندس ونجاحاته النموذجية التي دفعت بالكثيرين لتقليده والسير على خطاه وجرى تخصيص موازنات إضافية لأجهزة الاستخبارات والتجسس الإسرائيلية كجزء من استراتيجية جديدة لمواجهة الخلايا العسكرية والمجموعات المساندة لها. ويعلن الجنرال يغال بريسلر -مستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية لشؤون مكافحة الإرهاب- بعد اجتماع رؤساء الموساد والشباك وآمان بألم وحسرة: «إن أجهزة الأمن الإسرائيلية كادت أن تلقي القبض على المهندس في عدة مرات إلا أنه نجح في كل مرة بالإفلات بطريقة عجيبة»(7).
ولأن الحديث لم يعد يدور عن موجة طعن بالسكاكين أو عمليات بمبادرات فردية وذاتية بل يدور عن معركة ذات خطة وأهداف محددة، فإن رون بن يشاى، المعلق في صحيفة يديعوت أحرونوت، يجد في قدرة المهندس وأسلوبه ما يجعله يدق ناقوس الخطر مطالباً بأخذ الحيطة والحذر والاستعداد للمواجهة بإجراءات غير تقليدية أو عادية. ويرى بن يشاى: «سلسلة مكثفة من العمليات في قلب المناطق المكتظة بالسكان في إسرائيل تنفذ باحتراف وقدرة على التخطيط والتنفيذ لم نعهده حتى الآن: نشهد اختياراً متطوراً للأهداف والأساليب الحربية، وتشديداً يثير الذهول على السرية واختيار وإعداد دقيق للمنفذين الميدانيين الذين يبدون الاستعداد للتضحية خلال قيامهم بالعملية»(8).
أما المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فقد عانت من ضغوط شديدة، بعد أن تلقت ضربة معنوية قاسية نظراً لعدم تمكنها من متابعة تحركات المهندس وتنقلاته. ومما زاد في حرج هذه الأجهزة، انتقال المهندس إلى قطاع غزة ثم انضمام زوجته وابنه إليه وزيارة والدته السرية للقطاع ولقائها بولدها هناك، بعيداً عن أنظار القوات والأجهزة الإسرائيلية التي كانت تتابع تحركات العائلة باستمرار وتنصب الكمائن، وعلى الرغم من خضوع جميع أفراد عائلة عياش وأهالي القرية للمراقبة المستمرة(9).
ويعترف القادة العسكريون بالصعوبات التي تواجههم في متابعة البحث عن المهندس، مما يعني أيضاً اعترافاً بكفاءة «المهندس» الذي جعل الجنرالات يقرون بعدم معرفتهم بالمنطقة التي يختبىء بها. ففي مناسبتين متباعدتين زمنياً، يقر الميجر جنرال أمنون شاحك -رئيس هيئة الأركان العامة- والميجر جنرال ايلان بيران الذي كان يشغل قيادة المنطقة الوسطى ومن بينها الضفة الغربية بعدم معرفتهما بمكان إقامة يحيى عياش. ومن أروقة الكنيست، يصرح الجنرال شاحك أثر لقائه مع لجنة الخارجية والأمن بقوله: «الشاب يحيى عياش الملقب بالمهندس، أنا لا أعرف بالضبط أين هو؟!. نحن نبحث عنه منذ مدة طويلة… نحن نواصل البحث عنه حتى نقبض عليه»(10).
ويضيف شاحك: «إن قوات الجيش الإسرائيلي تبحث عنه في كل مكان، وعندما تعرف مكان تواجده فإنها ستصل إليه»(11).
وبصيغة مشابهة، يقول الجنرال بيران في مقابلة صحفية: «لزاما علينا العثور على المهندس ولم نتمكن من ذلك حتى الآن. نريد الاستمرار بمجهوداتنا والوصول إليه. وفقا لاعتقادي لا يتواجد في المنطقة الوسطى، هذا ليس سهلاً. الصعوبات كبيرة لكن يجب الاستمرار بالمحاولة»(12).
وحمّل بيران الأجهزة الأمنية مسؤولية الفشل معتبراً أن هذه الأجهزة «أصبحت عاجزة تماماً أمام الأعمال والخطط التي يضعها عياش»، وبناء على ذلك ينصح بيران بقوله: «الآن يتوجب على أجهزة الأمن حماية نفسها من هجمات عياش الانتحارية، وعليهم أن يتوقعوا المزيد من العمليات»(13).